فصل: مَوْعِظَة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في صفة يوم القيامة ودواهيها:

اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ المُسْلِمِينَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ، وَيَعْرِفُوهُ وَيَخْشَوْهُ وَيَخَافُوهُ، وَنَصَبَ لَهُمْ الأَدِلّةَ الدَّالَةَ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ لِيَهَابُوهُ، وَيَخَافُوهُ خَوْفَ إِجْلالٍ، وَوَصَفَ لَهُمْ شِدَّةَ عَذَابِهِ، وَدَارَ عِقَابِهِ التِي أَعَدَّهَا لِمَنْ عَصَاهُ لِيَتَّقُوهُ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَلِهَذَا كَرَّرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ ذِكْرَ النَّارِ وَمَا أَعَدَّهُ فِيهَا لأَعْدَائِهِ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالأَغْلالِ، وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرِيعِ وَالزَّقُومِ واَلحَمِيمِ وَالسَّلاسِلِ وَالغَسَّاقِ وَالغِسْلِينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهَا مِنَ الأَهْوَالِ وَالفَضَائِع وَالعَظَائِم، وَدَعَا عِبَادَهُ بِذَلِكَ إِلَى خَشْيَتِهِ وَتَقْوَاهُ، وَالمُسَارَعَةِ إِلَى امْتِثَالِ مَا يَأْمُر بِهِ وَيُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَاجْتِنَابِ مَا يَنْهَى عَنْهُ وَيَكْرَهُه وَيَأْبَاهُ، وَأَخْبَرَ جَلَّ وَعَلا بِأَنَّ الخَلْقَ وَارِدُوهَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} فَأَنْتَ مِنَ الوُرُودِ عَلَى يَقِينٍ، وَمِنَ النَّجَاةِ عَلَى شَكٍّ، فَيَا أَيُّهَا الغَافِلُ السَّاهِي عَنْ نَفْسِهِ، المَغْرُورُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الاشْتِغَالِ بِعَمَائِرِهِ وَأَرَاضِيهِ وَسَيَّارَاتِهِ، وَشَرِكَاتِهِ وَمُقَاوَلاتِهِ وَزَوْجَاتِهِ وَأَوْلادِهِ، وَكُلِّ مَا يُلْهِيهِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، وَالالْتِفَاتِ إِلَى دَارِ القَرَارِ، دَعْ التَّفَكُّرَ وَقَتْلَ الوَقْتِ فِيمَا أَنْتَ مُرْتَحِلٌ عَنْهُ، وَجَادٌّ فِي السَّيْرِ عَنْهُ، وَاصْرِفْ فِكْرَكَ فِيمَا أَمَامَكْ فَاسْتَشْعِرْ فِي قَلْبِكَ هَوْلَ ذَلِكَ المَوْرِدِ لَعَلَّكَ تَسْتَعِدّ لِلنَّجَاةِ مِنْهُ وَتَأَمَّلْ فِي حَالِ الخَلْقِ وَقَدْ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً: {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} تَفَكَّرْ فِي ازْدِحَامِ الخَلائِقِ وَقَدْ صَهَرَتْهُم الشَّمْسُ، إِلا مَنْ أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ، وَاشْتَدَّ الكَرْبُ وَالغَمُّ مِنَ الوَهَجِ، وَتَدَافَعَتْ الخَلائِقُ لِشِدَّةِ الزِّحَامِ، وَاخْتِلافِ الأقْدَامِ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ شِدَّةُ الخَجَلِ وَالحَيَاءِ، وَالخَوْفِ مِنَ الفَضَائِحِ وَالاخْتِزَاءِ عِنْدَ العَرْضِ عَلَى الجَبَّارِ، وَقُرْبُ الشَّمْسُ مِنَ الخَلْقِ فَيَبْلُغُ عَرَقُهم فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ:
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُم فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا».
يَضْحَكُ المَرْءُ وَالبُكَاءُ أَمَامَهُ ** وَيَرْومُ البَقَاءِ وَالمَوْتُ رَامَهْ

وَيَمْشِي الحَدِيثُ فِي كُلِّ لَغْوٍ ** وَيُخْلَى حَدِيثُ يَوْمَ القِيَامَةِ

وَلأمْرٌ بَكَاهُ كُلُّ لَبِيبٍ ** وَنَفَى فِي الضَّلامِ عَنْهُ مَنَامَهْ

صَاحِ حَدِّثْ حَدِيثَهُ وَاخْتَصرْهْ ** فَمُحَالٌ بِأَنْ تُطِيقُ تَمَامَهْ

عَجَزَ الوَاصِفُونَ عَنْهُ فَقَالُوا ** لَمْ نَجِي مِنْ بِحَارِهِ بِكُضَامَهْ

فَلْتُحَدِّثْهُ جُمْلَةً وَشَتَاتًا ** وَدَعْ الآنَ شَرْحَهُ وَنِظَامَهْ

آخر:
وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ ** بِمَوْقِف عَدْلٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ

كَأَنَّا نَرَى أَنْ لا نَشُورَ وَأَنَّنَا ** سُدَى مَا لَنَا بَعْدَ المَمَاتِ مَصَادِرُ

أَلا لا وَلَكِنَّا نَغُرُّ نُفُوسَنَا ** وَتَشْغَلُنَا اللذَّاتِ عَمَّا نُحَاذِرُ

فَصْل:
وَتَأَمَّلْ صِفَةَ يَوْمِ القِيَامَةِ وَدَوَاهِيهَا، لَعَلَّكَ أَنْ تَسْتِعِدَّ لَهُ قَبْلَ أَنْ تُفَارِقَ الرُّوحُ البَدَنَ، وَيُحَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَتَنْدَم حِينَ لا يَنْفَعُكَ النَّدَمُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ اليوم الرَّهِيبُ تَنْفَطِرُ السَّماَءُ وَالكَوَاكِبُ تَنْتَثِرُ، وَالبِحَارُ تُفَجَّرُ وَالنُّجُومُ تَنْكَدِرُ، وَالشَّمْسُ تُكَوَّرُ وَالجِبَالُ تُسَيَّرُ، وَالعِشَارُ تُعَطَّلُ، وَالوُحُوشُ تُحْشَرُ، وَالنُّفُوسُ تُزَوَّجُ، وَالجَحِيمُ تُسَعَّرُ وَالجَنَّةْ تُقَرَّبُ، وَالأَرْضُ تُمَدُّ يَوْمَ تَرَى الأَرْضَ قَدْ زُلْزِلَتْ، وَأَخْرَجَتْ أَثْقَالَهَا: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} يَوْمَ تُحْمَلُ {الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً}، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}، {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً}، يَوْمَ تُرَجُّ الأَرْضُ رَجَّا، وَتُبَسُّ الجِبَالُ بِسَّا، يَوْمَ: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} يَوْمَ يَنْسِفُ اللهُ الجِبَالَ: {نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} يَوْمَ: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يَوْمَ تَنْشَقُّ فِيهِ السَّمَاءُ فَتَكُونُ: {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}، {يَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ}، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.
وَبَعدَ دُخُولِ القَبْرِ يَا نَفْسُ كُرْبَةٌ ** وَهَوْلٌ تُشِيبُ المُرْضِعِينَ زَلازِلُهْ

إِذَا الأَرْضُ خَفَّتْ بَعْدَ ثَقْلِ جِبَالِهَا ** وَخَلَّى سَبِيلَ البَحْرِ يَا نَفْسُ سِاحِلُهْ

فلا يَرْتَجِي عَوْنًا عَلَى حَمْلِ وِزْرِهِ ** مُسِيءٌ وَأَوْلَى النَّاسِ بِالوِزْرِ حَاِمِلُهْ

إِذَا الجَسَدُ المَعْمُورُ زَايلَ رُوحَهُ ** خَوَى وجَمَالُ البَيْتِ يَا نَفْسُ آهِلُهْ

وَقَدْ كَانِ فِيهِ الرُّوحُ حَيًّا يَزِينُهُ ** وَمَا الغِمْدُ لَولا نَصْلُهُ وَحَمَائِلُهُ

يُزَايلُُنِي مَالِي إَذِا النَّفْسُ حَشْرَجَت ** وَأَهْلِي وَكَدْحِي لازِمِي لا أُزَايِلُهْ

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}، وَقَالَ: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ}، وَقَالَ: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً} الآيَة، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}، {يَوْمَ تَبْلُوا كُل نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ}، يَوْمَ تَعْلَمُ فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ مَا أَحْضَرَتْ وَتَشْهَدُ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ، يَوْمَ تَخْرُسُ فِيهِ الأَلْسُنُ، وِتَنْطِقُ فِيهِ الجَوَارِحُ، يَوْمٌ شَيَّبَ ذِكْرُهُ سَيَّدَ المُرْسَلِينَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالوَاقِعَةُ، وَالمُرْسَلاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإَذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ». أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيَ وَحَسَّنَهُ.
لأَمْرِ مَا تَصَّدُعَتِ القُلُوبُ ** وَبَاحَ بِسِرِّهَا دَمْعٌ سَكِيبُ

وَبَاتَتْ فِي الجَوَانِحِ نَارُ ذِكْرَى ** لَهَا مِنْ خَارِج أَثَرٌ عَجِيبُ

وَمَا خَفَّ اللَّبِيبُ لِغَيْرِ شَيْءٍ ** وَلا أَعْيَا بِمَنطِقِهِ الأَرِيبُ

ذَرَاهُ لائِمَاُه فَلا تُلُومَا ** فَرُبَّتَ لائِمٍ فِيهِ يَحُوبُ

رَأَى الأَيَّامَ قَدْ مَرَّتْ عَلَيْهِ ** مُرُورَ الرِّيحِ يَدْفَعُهَا الهُبُوبُ

وَمَا نَفَسٌ يَمُرُّ عَلَيْهِ إِلا ** وَمِنْ جُثْمَانِهِ فِيهِ نَصِيبُ

وَبَيْنَ يَدَيْهِ لَوْ يَدْرِي مَقَامٌ ** بِهِ الولْدَانُ مِنْ رَوْعٍ تَشِيبُ

وَهَذَا المَوْتُ يُدْنِيهِ إليه ** كَمَا يُدْنِي إِلَى الهَرَمِ المَشِيبُ

مَقَامٌ تٌسْتَلَذُّ بِهِ المَنَايَا ** وَتُدْعَى فِيهِ لَوْ كَانَتْ تُجِيبُ

وَمَاذَا الوَصْفُ بِالِغُهُ وَلَكِنْ ** هِيَ الأَمْثَالُ يَفْهَمُهَا اللَّبِيبُ

اللَّهُمَّ اقْبَلْ تَوْبَتَنَا وَاغْسِلْ حَوْبَتَنَا وَأَجِبْ دَعْوَتَنَا وَثَبِّتْ حُجَّتَنَا وَاهْدِ قُلُوبَنَا وَسَدّدْ أَلْسِنَتَنَا وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قُلُوبِنَا وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {اليوم نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}، وَقَالَ: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} قَالَ المُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمْ يُنْكِرُونُ الشِّرْكَ وَتَكْذِيبَ الرُّسُلِ، فَيَخْتِمُ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ خَتْمًا لا يَقْدِرُونَ مَعَهُ عَلَى الكَلامِ، وَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلهُمْ عَلَيْهم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ بِاخْتِيَارِهِمْ، بَعْدَ إِقْدَارِ اللهِ تَعَالَى لَهَا عَلَى الكَلامِ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَالنِّسَائِيّ، وَالبَزَّارُ وَغَيْرُهُم عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اليوم نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} الآيَة. قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحَكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَمَّ أَضْحَكْ؟» قُلْنَا: لا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «مِنْ مُخَاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: إِنِّي لا أُجِيزُ عَلَيَّ إِلا شَاهِدًا مِنِّي، فَيَقُولُ: {كَفَى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} وَبِالكَرَامِ الكَاتِبِينَ شُهُودًا، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقُالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ بِأَعْمَاله، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الكَلامِ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلْ».
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَلْقَى العَبْدَ رَبَّهُ، فَيَقُولُ اللهُ: أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الإِبلَ، وَأَذَرُكَ تَرْأَسُ وَتَرَبَّعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى أَيْ رَبِّ. فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لا، فَيُقَالُ: إِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِي فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثُ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَرَسُولِكَ، وَصليتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنَي بَخَيْرِ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ: أَلا نَبْعَثُ شِاهِدًا عَلَيْكَ؟ فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ، مَنْ الذِي يَشْهَدُ عَلَيْهِ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخْذِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَفَمُهُ وَعِظَامُه بِعَمَلِهِ مَا كَانَ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ المُنَافِقُ وَذَلِكَ الذِي يُسْخَطُ عَلَيْهِ».
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي ذِكْرِ بَعْضِ أَهْوَالِ يَوْمِ القِيَامَةِ:
وَتحَدِّثُ الأَرْضَ التِي كُنَّا بِهَا ** أَخْبَارَهَا فِي الحَشْرِ لِلرَّحْمَانِ

وَتَظَلُّ تَشْهَدُ وَهِي عَدْلٌ بِالذَي ** مِنْ فَوْقِهَا قَدْ أَحْدَثَ الثَّقَلانِ

وَتُمَدُّ أَيْضًا مِثْلَ مَدِّ أَدِيمِنَا ** مِنْ غَيْرِ أَوْدِيَةٍ وَلا كُثْبَانِ

وَتَقِيءُ يَوْمَ العَرْضِ مِنْ أَكَبْادِهَا ** كَالأَصْطِوَانِ نَفَائِسُ الأَثْمَانِ

كُلٌّ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ وَعِيَانِهِ ** مَا لامْرِئٍ بِالأَخْذِ مِنْهُ يَدَانِ

وَكَذَا الجِبَالُ تُفَتُّ فَتًّا مُحْكَمًا ** فَتَعُودُ مِثْلُ الرَّمْلِ ذِي الكُثْبَانِ

وَتَكُونُ كَالعِهْنِ الذِي أَلْوَانُهُ ** وَصِبَاغُه مِنْ سَائِرِ الأَلْوَان

وَتُبَسُّ بَسًا مِثْلَ ذَاكَ فَتَنْثَنِي ** مِثْلَ الهَبَاءِ لِنَاظِرِ الإِنْسَانِ

وَكَذَا البِحَارُ فَإِنَّهَا مَسْجُورَةٌ ** قَدْ فُجِّرَتْ تَفْجِيرِ ذِي السُّلْطَانِ

وَكَذَالَكِ القَمَرَانِ يَأْذَنُ رَبُّنَا ** لَهُمَا فَيَجْتَمِعَانِ يَلْتَقِيَانِ

هَذِي مُكَوَّرةٌ وَهَذَا خَاسِفٌ ** وَكِلاهُمَا فِي النَّارِ مَطْرُوحَانِ

وَكَوَاكِبُ الأَفْلاكِ تُنْثَرُ كُلُّهَا ** كَلآلِئٍ نُثِرَتْ عَلَى مِيدَانِ

وَكَذَا السَّمَاءُ تُشَقُّ شِقًا ظَاهِرًا ** وَتَمُورُ أَيْضًا أَيَمَا مَوَرَان

وَتَصِيرُ بَعْدَ الانْشِقَاقِ كَمِثل هَ ** ذَا المُهْلِ أَوْ تَكُ وَرْدَة كَدِهَانِ

وَقاَلَ القَحْطَانِي رَحِمَهُ اللهُ:
يَوْمُ القِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ** لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ

يَوْمٌ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ ** وَتَشِيبُ فِيهِ مَفَارِقُ الوِلْدَانِ

يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرَيرٌ شَرُّهُ ** فِي الخَلْقِ مُنْتَشِرٌ عَظِيمُ الشَّأنِ

يَوْمٌ يَجِيءُ المُتَّقُونَ لِرَبِّهِم ** وَفْدًا عَلَى نُجُبٍ مِنَ العِقْيان

وَيَجِيءُ فِيهِ المُجْرِمُونَ إِلَى لَظَى ** يَتَلَمَّظُونَ تَلَمُّظَ العَطْشَان

.مَوْعِظَة:

فَيَا أَيُّهَا المُهْمِلُونَ الغَافِلُونَ تَيَقَّظُوا فَإليكُم يُوَجَّهُ الخِطَابُ وَيَا أَيُّهَا النَائِمُونَ انْتَبِهُوا قَبْلَ أَنْ تُنَاخَ لِلرَّحِيلِ الركابْ، قَبْلَ هُجُومِ هَادِمِ اللَّذَاتِ وَمُفَرِّقَ الجَمَاعَاتِ وَمُذِلِّ الرِّقَابِ وَمُشَتِّتِ الأَحْبَابِ فَيَا لَهُ مِنْ زَائِر لا يَعُوقُهُ عَائِق وَلا يُضْرَبُ دُونَهُ حِجَاب، وَيَا لَهُ مِنْ نَازِلٍ لا يَسْتَأْذِنُ عَلَى المُلُوكِ وَلا يلِحُ مِنَ الأَبْوَابِ، وَلا يَرْحَمُ صَغِيرًا وَلا يُوَقِّر كَبِيرًا وَلا يَخَافُ عَظِيمًا وَلا يَهَابُ ألا وَأنَّ بَعْدُهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ السُّؤَالِ وَالجَوَابِ، وَوَرَاءهِ هَوْلُ البَعْثِ وَالحَشْرِ وَأَحْواله الصِّعَابِ مِنْ طُولِ المَقَامِ وَالازْدِحَامِ فِي الأَجْسَامِ وَالمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ وَالحِسَابِ.
نظم في البعث بعد الموت والجزاء:
وَإِنَّ نَفْخَةَ إِسْرَافِيلَ ثَانِية ** فِي الصُّوَرِ حَقًا فَيَحْيَى كَلُّ مَنْ قُبِرا

كَمَا بَدَا خَلْقَهُم رَبِّي يُعِيدُهُمُ ** سُبْحَانَ مَنْ أَنْشَأَ الأَرْوَاحَ وَالصُّوَرا

حَتَّى إِذَا مَا دَعَا لِلْجَمْعِ صَارِخُهُ ** وَكُلُّ مَيْتٍ مِنْ الأَمْوَاتِ قَدْ نُشِرَا

قَالَ الإِلَهُ قِفُوهُم لِلسُؤَال لِكَيْ ** يَقْتَصُّ مَظْلُومُهُم مِمَّنْ لَهُ قَهَرَا

فَيُوقَفُونَ أُلُوفًا مِنْ سِنِينِهِم ** وَالشَّمْسُ دَانيةَ وَالرَّشحُ قَدْ كَثُرَا

وَجَاءَ رَبُّك وَالأملاكُ قَاطِبةٌ ** لَهُمْ صُفُوفٌ أَحَاطَتْ بِالوَرَى رُمَرَا

وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِالنَّارِ تَسْحَبُهَا ** خُزَّانُهَا فَأَهَللتْ كُلَّ مَنْ نَظَرَا

لَهَا زَفِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ تَغَيُّظِهَا ** عَلَى العُصَاةِ وَتَرْمِي نَحْوَهُم شَرَرَا

وَيُرْسِلُ اللهُ صُحْفَ الخَلْقِ حَاوِيَةً ** أَعْمَالُهم كُلُّ شَيْءٍ جَلَّ أَوْ صَغُرَا

فَمَنْ تَلقْتُه بِإليمْنَى صَحِيفَتُهُ ** فَهُوَ السَّعِيدُ الذِي بِالفَوْزِ ظَفِرَا

وَمَنْ يَكُنْ بِاليدِ اليسْرَى تَنَاوَلَهَا ** دَعَا ثُبُورًا وَللنِّيرَانِ قَدْ حُشِرَا

وَوَزْنُ أَعْمَالِهِم حَقًّا فَإِنْ ثَقُلَتْ ** بِالخَيْرِ فَازَ وَإِنْ خَفّتَت فَقَدْ حُشِرَا

وَإِنْ بالمثل تُجْزَى السَّيِئَات كَمَا ** يَكُونُ فِي الحَسَنَاتِ الضِّعْفِ قَدْ وَفَرَا

وَكُلُّ ذَنْبٍ سِوَى الإِشْرَاكِ يَغْفِرُهُ ** رَبِّي لِمْنَ شَاءَ وَلَيْسَ الشِّرْكُ مُغْتَفَرَا

وَجَنَّةُ الخُلْدِ لا تَفْنَى وَسَاكِنُهَا ** مُخَلَّدَ لَيْسَ يَخْضَى المَوْتَ وَالكِبَرَا

أَعَدَّهَا اللهُ دَارًا لِلْخُلُودِ لِمَنْ ** يَخْشَى الإِلَهَ وَللنَّعْمَاءَ قَدْ شَكَرَا

وَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ الإِلَهِ بِهَا ** كَمَا يَرَى النَّاسُ شَمْسَ الظُّهْرِ وَالقَمَرَا

كَذَلِكَ النَّارُ لا تَفْنَى وَسَاكِنُهَا ** أَعَدَّهَا اللهُ مَوْلانَا لِمَنْ كَفَرَا

وَلا يُخَلَّدُ فِيهَا مَنْ يُوَحِّدُهُ ** وَلَوْ بِسَفْكِ دَمِ المَعْصُومِ قَدْ فَجَرَا

وَكَمْ يُنَجِّي إِلَهِي بِالشَّفَاعَةِ مِنْ ** خَيْرِ البَرِيَّةِ مِنْ عَاص بَهَا سُجِرَا

اللَّهُمَّ أَيْقَظْنَا مِن نَوْم الغَفْلَةِ ونَبِّهْنَا لاِغْتِنَامِ أَوقَاتِ المُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحِنَا واعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنَا وَذُنُوبِنَا ولا تُوآخِذْنَا بِمَا انْطَوتْ عليه ضَمَائِرُنُا.
اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنْ الْمُخَالَفةِ والعصيانِ وألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ يَا كرِيمُ يَا مَنَّان، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.فصل في ذكر الميزان:

ثُمَّ تَأَمَّلْ فِي المِيزَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَيزَانٌ حَقِيقِيّ لَهُ كفَّتَانِ وَلِسَانٌ، تُوزُنُ بِهِ أَعْمَالُ العِبَادِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ}.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ». الأَكثرُ عَلَى أَنَّهُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِ الأُمَمِ وَلِجَمِيعَ الأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا جُمِعَ بِاعْتِبَارَ تَعَدُّدِ الأَعْمَالِ المَوْزُونَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الأَشْخَاصِ، أَوْ لِلتَّفْخِيمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِل إليهمْ إِلا وَاحِدٌ، وَقِيلَ: لأَنَّ المِيزَانَ يَحْتَوِي عَلَى لِسَانٍ وَكَفَّتَيْنِ وَشَاهِينَ، وَلا يَتِمُّ الوَزْنُ إِلا بِاجْتِمَاعِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ: سَأَلَ رَبَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُرِيَهُ المِيزَانَ، فَأَرَاهُ كُلَّ كِفَّةٍ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، فَغُشِي عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: يَا إِلَهِي مَنِ الذِي يَقْدِرُ أَنْ يَمْلأ كِفَّتَهُ حَسَنَاتٍ؟ فَقَالَ: يَا دَاوُدَ إِنِّي إِذَا رَضِيتُ عَنْ عَبْدِي مَلأتُها بِتَمْرَةٍ.
وَأَخْرَجَ البَزَّارُ، وَالبَيْهَقِيُّ فِي البَعْثِ عَنْ أَنَسٍ بنِ مَالِكَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ كِفَّتَيْ المِيزَانَ، وَيُوكُلُ بِهِ مَلَكٌ، فَإِنْ ثَقُلَ مِيزَانُهُ نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الخَلائِقَ: سَعُدَ فُلانُ بنُ فُلانٍ سَعَادَةً لا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَإِنْ خَفَّ مِيزَانُهُ نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الخَلائِقَ: أَلا شَقِيَ فُلانٌ شَقَاوَةً لا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا»، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارُ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُبْكِيكِ؟» قُلْتُ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُم يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «أَمَّا فِي ثَلاثِ مَوَاطِنَ فَلا يَذْكُرُ أَحَدًا أحَدًا: عِنْدَ المِيزَانِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ تَطَايُرِ الصُّحُفِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيَقَعُ كِتَابَهُ فِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شِمَاله أَمْ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَعِنْد الصِّرَاطِ إَذَا وَضَعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ حَتَّى يَجُوزَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
فَلا تَغْفَلْ عَنِ المِيزَانِ بِلْ فَكِّرْ فِيهِ وَخَطَرِهِ، وَأَنَّ الأَعْيُنَ شَاخِصَةٌ إِلَى لِسَانِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لا يَنْجُو مِنْ خَطَرِهِ إِلا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا، وَوَزْنَ أَعْمَاله فِيهَا بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، وَتَتَبَّعَ أَقْواله وَخَطَرَاتِهِ وَلَحَظَاتِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا يِجِبُ الإِيمَانُ بِهِ كَالمِيزَانِ الصُّحُفِ، وَهِيَ صُحُفُ الأَعْمَال، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} فَيُجْمَعُ لَهُ عَمَلُهُ كُلُّهُ فِي كِتَابٍ يُعْطَاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ البَعْثِ وَالحِسَابِ، يَلْقَاُه مَفْتُوحًا غَيْرَ مَطْوِيّ يَقْرَؤُهُ، فِيهِ جَمِيعُ عَمَلِهِ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ، قَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}، وَقَالَ: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، وَقَالَ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ}.
فَلَيْسَ بِمُهْمَلٍ بَلْ لَهُ مَلائِكَةٌ يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، حَرَسٌ بِاللَّيْلِ وَحَرَسٌ بِالنَّهَارِ، وَيَحْفَظُونَهُ مِنَ الأَسْوَاءِ وَالحَادِثَاتِ، كَمَا يَتَعَاقَبُ مَلائِكَة آخَرُونَ لِحِفْظِ الأَعْمَالِ مَنْ خَيْرٍ أَوْ شَرِّ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، فَاثْنَانِ عَنِ اليمين وَالشَّمِالِ يَكْتُبَانِ الأَعْمَالَ، صَاحِبُ اليمين يَكْتُبُ الحَسَنَاتِ، وَصَاحِبُ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَمَلَكَانِ آخِرَانِ يَحْفَظَانِهِ وَيَحْرُسَانِهِ، وَاحِدٌ مِنْ وَرَائِهِ، وَآخَرُ مِنْ قُدَّامِهِ، فَهُوَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَمْلاكٍ بِالنَّهَارِ، وَأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ بِاللَّيْلِ بَدَلاً، حَافِظَانِ وَكَاتِبَانِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونِ فِي صَلاةِ الصُّبْحِ، وَصَلاةِ العَصْرِ، فَيَصْعَدُ إليه الذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُم وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُم يُصَلُّونَ، وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»، وَفِي الحَدِيثِ الآخر: «إِنَّ مَعَكُم مَنْ لا يُفُارقُكُم إِلا عِنْدَ الخَلاءِ وَعِنْدَ الجِمَاعِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ».
إِنْ سَرَّكَ الشَّرَفُ العَظِيمُ مَعَ الغِنَى ** وَيَكُونُ يَوْمَ أَشَدِّ خَوْفٍ وَابِلا

يَوْمَ الحِسَابِ إَذَا النُّفُوسِ تَثَاقَلَتْ ** فِي الوَزْنِ إِذْ غَبَطَ الأَخَفُّ الأَثْقَلا

فَاعْمَلْ لِمَا بَعْدَ المَمَاتِ وَلا تَكُنْ ** عَنْ حَظِّ نَفْسِكَ فِي حَيَاتِكَ غَافَلا

اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِينَ وأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ واليقين وَخُصَّنَا مِنْكَ بالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وإتَّبَاعِهِ وَخَلَّصْنَا مِنْ الْبَاطِل وابْتِدَاعِهِ وَكَنْ لَنَا مَؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.